هل هما في حالة صِدام دائم، كما تدّعي بعض التيَّارات الفكريَّة، أم أنَّ هناك تكاملًا بينهما يتيح للإنسان تحقيق فَهم أعمق للوجود؟ ولماذا ارتبط الحديث عن العِلْم والدِّين، في كثير من الأحيان، بصراع تاريخيّ، رغم أنَّ الهدف الأسمى لكليهما هو الوصول إلى الحقيقة؟
في السياق الغربيّ، ارتبطت هذه الإشكاليَّة بتاريخ طويل من المواجهة بين المؤسَّسة الدِّينيَّة والعُلَماء؛ حيث كانت الكنيسة في العصور الوُسطى تفرض سلطتها المُطلَقة على المعرفة العِلْميَّة، وتمنع أيَّ بحث يتعارض مع رؤيتها الكونيَّة، ما أدَّى إلى نشوء تصوِّرٍ يرى أنَّ العِلْم والدِّين لا يمكن أنْ يلتقيا، بل هما نقيضان متصارعان. غير أنَّ هذه التجربة التاريخيَّة لم تكن بالضرورة قاعدة كونيَّة تنطبق على جميع الأديان، وهنا يُطرح السؤال: هل ينسحب هذا الصراع على الإسلام أيضًا، أم أنَّ العلاقة بين الدِّين والعِلْم في الرؤية الإسلاميَّة مختلفة جذريًّا؟
ثم نَعُدُّ التّفسيرَ الأمثلَ لتلك الأدِلّةِ هو المعنى المُستقَى منَ النّصِّ.
وهذا يعني أنّ التّفسيرَ يعتمدُ أيضًا على العمليّةِ الاستنتاجيّةِ نفسها التي تُشكّلُ بدورِها منهجيّةَ العلومِ التّجريبيّةِ.
لذلك، من ناحيةٍ، تَعتمِدُ العلومُ التّجريبيّةُ والاستنباطُ منَ النّصوصِ المقدّسةِ على حدٍّ سواءٍ على الاستنتاجِ التّفسيريِّ للأدلّةِ.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الأدلّةَ الموجودةَ في كليهِما ـ أيِ الظّواهرِ الطّبيعيّةِ والنّصوصِ المقدّسةِ ـ تُنسبُ أيضًا إلى اللهِ من وجهةِ نظرٍ دينيّةٍ.
ونتيجةً لذلك، ما لم يكنْ ثمّةَ دليلٌ مستقلٌّ، لا يمكنُ للفردِ المُتديّنِ أن يُوليَ لإحداهُما مصداقيّةً أكبرَ منَ الأخرى، أو أن يُرجّحَ إحداهُما على الأخرى على افتراضِ وجودِ تعارضٍ غيرِ قابلٍ للتّوفيقِ بينهُما.
وإذا كنّا بصددِ دراسةِ موضوعٍ طبيعيٍّ ماديٍّ كالماءِ، فلا بُدَّ من استخدامِ المنهجِ التجريبيِّ؛ لأنّه مهما ضغطَ الفيلسوفُ على عقلِهِ التجريديِّ، لن يتمكّنَ من معرفةِ أنّ الماءَ يتركّبُ من ذرّتَيْنِ هيدروجينٍ وذرّةِ أوكسجينٍ.
لكن في المقابلِ، إذا كنّا بصددِ دراسةِ موضوعٍ يرتبطُ بعالمِ الغيبِ وما وراءَ الطبيعةِ والمادةِ، هل يصلحُ معرفيًّا استعمالُ المنهجِ التجريبيِّ القائمِ على أساسِ مقدِّماتٍ حسيّةٍ؟!
سنُثبِتُ في هذا البحثِ أنّه يمكنُ توظيفُ المنهجِ التجريبيِّ في دراسةِ القضايا الغيبيّةِ، كمعرفةِ اللهِ، والنبوّةِ، والإمامةِ، والمعادِ، وحقّانيّةِ القرآنِ... مع اتّخاذِ مسألةِ وجودِ اللهِ بوصفِهِ نموذجًا دون الموضوعاتِ الأُخرى، لضيقِ المجالِ عن البحثِ فيها كلِّها.
يُبيّنُ البحثُ أنّ أهلَ البيتِ (ع) قدّموا نَموذجًا فَريدًا يُعلي من شأنِ العِلمِ، ويَجعلهُ طريقًا للتّقرُّبِ إلى اللهِ تعالى.
وقد دَعَوا أتباعَهم إلى طَلَبِ العِلمِ النّافعِ، وشجّعوا على التّدبُّرِ في الكونِ والوُجودِ، واعتبروا العالِمَ وَريثًا للأنبياءِ.
وفي المُقابلِ، لم يُفصِلوا العِلمَ عن الدِّينِ، بل أَكّدوا على ضرورةِ أن يُستنارَ العِلمُ بالهدايةِ الرّبّانيّةِ والقِيَمِ الأَخلاقيّةِ.
تَعتمدُ المنهجيّةُ المُتَّبعةُ في هذهِ الدّراسةِ على التّحليلِ والاستنباطِ من خلالِ دِراسةِ الرِّواياتِ الموثوقةِ، معَ محاولةِ رَبطِها بالسّياقِ الفكريِّ المُعاصِرِ.
ويُستَنتَجُ من ذلكَ أنّ الدِّينَ والعِلمَ ــ في تَصوُّرِ أهلِ البيتِ (ع) ــ ليسا خَصمينِ بل شَريكينِ في بِنَاءِ الإنسانِ والمعرفةِ، وأنَّ التّكاملَ بينَهما يُشكِّلُ أَساسًا لنُهوضٍ حَضاريٍّ ومعرفيٍّ.
وقد شَمَلت هذه السَّطوةُ مجالاتِ الفكرِ، والعلومِ الإنسانيَّة، فضلًا عن مجالاتِ التقنيَّةِ والعلومِ التجريبيَّة. ولعلَّ من الأدلَّةِ الصَّريحةِ على ذلك، ما شهِدَهُ عالمُنا الإسلاميُّ من محاولاتٍ قدَّمها بعضُ المفكّرينَ الإسلاميّينَ، سَعَوا من خلالِها إلى إعادةِ قراءةِ المنظومةِ المعرفيَّةِ – وبالأخصّ موضوعَ الدّين – على أرضيَّةِ المنهجياتِ المعرفيَّةِ الغربيَّة، ما أفرزَ في عالمِنا الإسلاميّ حضورًا قويًّا لطُرُوحاتٍ فكريَّةٍ مستنسَخةٍ، أعادت قراءةَ الدّين. ومن بينِ هذه الطُّروحاتِ: نظريَّةُ النّسبيَّةِ المعرفيَّة، التي وَصَلت ببعضٍ إلى سلبِ الاعتبارِ عن الدّينِ، بوصفِهِ نظامًا معرفيًّا، وببعضٍ آخرَ إلى طرحِ ضرورةِ تقديمِ مقاربةٍ مختلفةٍ لَه.
سنحاولُ في هذا المقالِ أن نختبرَ حقيقةَ التَّأثيرِ الذي يمكنُ لنظريَّةِ النّسبيَّةِ أن تفرِضَهُ على عُنوانِ الدّين، وذلكَ من خلالِ استعراضِ النظريَّةِ أوَّلًا، واستعراضِ أثَرِها على الدّين ثانيًا، ثُمَّ النَّقدِ عليها، بالاستنادِ إلى مُنجزاتِ الفلاسفةِ المسلمينَ فيما يخصُّ حقلَ المعرفةِ البشريَّة.
فبينما مضى (العِلمُ) في تَطوُّرِهِ التِّقنيِّ بوتيرةٍ فائقةٍ، تَراجَعَتِ المنظومةُ الخُلُقيَّةُ التي تُؤَطِّرُهُ، ما أَدَّى إلى حالةٍ من الانفِصالِ بين التَّقدُّمِ المعرفيِّ والوعيِ الإنسانيِّ.
ومن هذا المُنطلَقِ، تَنبثِقُ أَهمِّيَّةُ هذهِ الدِّراسةِ في قُدرَتِها على مُساءَلَةِ الأُسُسِ الفَلسفيَّةِ التي بُنيَتْ عليها العلاقةُ بين الحَقلَين، واقتِراحِ مَساراتٍ جديدةٍ تُـمَكِّنُ من تأسيسِ رُؤيةٍ تَكامُليَّةٍ تُعيدُ التَّوازُنَ بينَ العَقلِ والقِيَمِ.
وينبثِقُ عن هذا التَّوجُّهِ تساؤلٌ مَحوريٌّ، وهو:
إلى أَيِّ مَدًى يُمكِنُ أَنْ يُسْهِمَ التَّكامُلُ بينَ المرجعيَّةِ الدِّينيَّةِ والمَنهجيَّةِ العِلميَّةِ في بَلْوَرَةِ نَموذجٍ خُلُقيٍّ مُعاصِرٍ، قادِرٍ على مُعالجةِ الأَزْمةِ الخُلُقيَّةِ التي تُعاني منها المُمارَسَةُ العِلميَّةُ في العَصرِ الرَّاهِنِ؟
وتَكشفُ النَّتيجةُ الأوَّليَّةُ عن أنَّ الأَزْمةَ الخُلُقيَّةَ في (العِلمِ) لا تَنبُعُ من نَقصٍ في المَعرِفةِ، بل من غِيابِ التَّوجِيهِ القِيَميِّ الذي يُحسِنُ استخدامَ تلكَ المَعرِفةِ.
لكنْ، في العقودِ الأخيرةِ، رأى عددٌ متزايدٌ من الباحثينَ أنَّ الذهنَ ـ أو الوعيَ أو الروحَ ـ هو أمرٌ ماديٌّ، بالرغمِ من أنَّ العلمَ في الزمنِ المعاصرِ لا يستطيعُ أن يُفسِّرَ مسألةَ الوعيِ لدى الإنسانِ ويختزلَها إلى أمورٍ ماديّةٍ معيّنةٍ؛ ومردُّ ذلك هو تعقيداتُ الذهنِ...
غيرَ أنَّ عددًا من كبارِ علماءِ العصرِ الراهنِ يحسبونَ أنَّ الوعيَ ليس ماديًّا، ولا يمكنُ تفسيرُه أبدًا بواسطةِ العلمِ التجريبيِّ. ومن هؤلاءِ مَن يعدُّ الوعيَ منحةً أو فيضًا خاصًّا من الله.
في هذا المقالِ، تُستعرضُ بعضُ التطوّراتِ الحديثةِ والمقارباتِ المختلفةِ لمسألةِ الوعيِ والروحِ، من منظورِ حكماءِ (الإسلامِ) والعلماءِ (الغربيينَ) المعاصرينَ.
يحاولُ مؤلِّفو هذا الكتاب تقديمَ تأطيرٍ معرفي جديد عن طبيعة العَلاقة المُلتبسة بين العلم والدين، وإعادة ضبط مساراتها وسبلها؛ إذْ لطَالما كانتْ تلكَ العَلاقة مَشُوبة بكثيرٍ منَ القراءات والاجتهادات والرّؤى المُغالية والمُتطرّفة في وعيها، وتحليلها لقضيّة العِلم والدّين والعلاقة بينهما، الأمر الذي أنتج لنا -في واقع الفكر والوعي البشريّ- شُبهات وأضاليل ومؤاخذات كثيرة عن الدين ذاته (وليسَ فقط عن طبيعة العلم)، تحوّلتْ مع الزّمن لدى بعض الناس إلى ما يشبه الاعتقادات والقناعات الراسخة، بعيدًا عن معاني الدين والعقلانيّة والاعتدال والوسطيّة التي عُرف بها الدين الإسلاميّ.
يقدّمُ الكتابُ عمومًا رؤيَة نقديَّة عميقة لطبيعة تلك العلاقة التي تحكم العلم والدين في سياق رؤيَة الفكر الإسلاميّ المعاصر، كما يناقش ظاهرة "دَيْنَنة العلوم"، أو محاولة أسلمة المعرفة العلميّة الحديثة، بالاستناد إلى منظور متعدّد التخصّصات والاهتمامات المعرفيّة، ويشارك في المعالجة مجموعة من الباحثين المتخصّصين ممّن يحاولون طرح تحليلاتهم للعلاقة المعقّدة بين المنهج العلميّ والفهم الدينيّ.
اضافةتعليق