يجادلُ البحثُ أنَّ "الثيوديسيا" الغربيَّةَ البارزةَ، مثل "دفاع الإرادة الحرَّة" لـ (ألفين بلانتينغا- Alvin Plantinga) و"ثيوديسيا صناعةِ الرُّوحِ" لـ (جون هيك- John Hick)، وإنْ حاولتِ "الدفاعَ" عنِ الإيمانِ باللهِ في مواجهةِ تحدِّياتِ (هيوم) الاستدلاليَّةِ، لكنَّها بقيتْ تعملُ إلى حدٍّ كبيرٍ ضمنَ الإطارِ المعرفيِّ الذي أسَّست له فلسفةُ التَّنويرِ. في المقابلِ، فإنَّ منظورَ الفكرِ الإسلاميِّ، وبشكلٍ حاسم، منظور مدرسةِ الحكمةِ المتعاليةِ – كما عبَّر عنه كلٌّ من (المُلَّا صدرا) و(الشهيد مرتضى مطهَّري) و(العلَّامة الطباطبائي) – لا يقدِّم مجرَّد دفاعٍ، بل يُحدِثُ نقلةً نوعيَّةً في النَّموذجِ الفكريِّ. فمن خلالِ طرحِ مبدأ "أصالةِ الوجودِ"، وتعريفِ الشَّرِّ بأنَّه "أمرٌ عدميٌّ" أو نتيجةٌ عرضيَّةٌ لنظامٍ هو خيرٌ بالذَّاتِ، وإعادةِ صياغةِ المعاناةِ ضمنَ غائيَّةٍ تهدفُ إلى الكمالِ الروحيِّ، فإنَّ هذه المدرسةَ تعملُ على حلِّ "المشكلةِ الهيوميَّةِ" من أساسِها. ويُثبتُ البحثُ أنَّ التَّناقضَ المتصوَّرَ بين الإلهِ كلِّيِّ الخيريَّةِ وواقعِ الشَّرِّ ليس سمةً من سماتِ الواقعِ، بل هو نتاجٌ لافتراضاتٍ ميتافيزيقيَّةٍ وأنطولوجيَّةٍ معيبةٍ متأصِّلةٍ في رؤيةٍ كونيَّةٍ تجريبيَّةٍ بحتةٍ.
وقد تعاملَ معها من منطلقٍ منطقيٍّ وجِداليٍّ وحِجاجيٍّ من أجل أن ينكرَ وجودَ الله ما دام اللهُ شرِّيرًا. بمعنى أنَّه درسَ التَّناقضاتِ الموجودةَ بين الفرضيَّاتِ الخمسِ من خلال الحلولِ الكافيةِ والحلولِ الخطأِ.
كما ناقشَ الإرادةَ الحرَّةَ عند البشرِ في التَّعاملِ مع الشَّرِّ. ولكنَّنا فنَّدنا معظمَ أطاريحِه الفلسفيَّةِ واللاهوتيَّةِ؛ انطلاقًا من نظريَّاتِ الفلاسفة والمَناطِقةِ المسلمين.
رأى كثيرون، في الفضاءِ الغربيِّ خاصَّة، أنَّ وجودَ الشَّرِّ يتناقضُ مع صفاتِ الله في القدرةِ والعدلِ والرَّحمةِ، فيما ذهبَ آخرون إلى التَّشكيكِ في وجودِ الله ذاتِه. لكنَّ فلاسفةً ولاهوتيِّين آخرين رفضوا هذا الاتجاهَ في التَّفكيرِ وأكَّدوا أنَّ هذا ليس إلَّا محاولةً لتبرئةِ الإنسانِ من ظلمِه وفسادِه وجرائمِه، ولا يوجد تناقضٌ بين المسألتين. وكان الفلاسفةُ والمتكلِّمون المسلمون قد تناولوا هذه المعادلةَ ووصلوا إلى حقيقةِ أنَّ الشَّرَّ في العالمِ لا يمكنُ أن يكونَ سببًا لإنكارِ الخالقِ، بل لعلَّه يؤكدُ وجودَه وقدرتَه وحكمتَه، وأنَّ الإنسانَ هو المسؤولُ عن الشَّرِّ الخُلُقيِّ الذي يرتكبُه بإرادتِه الحرَّة.
تكمنُ أهمَّيةُ طرحِ المشكلةِ ومعالجتِها بطريقةٍ عقلانيَّةٍ في تأثيرِ المعتقداتِ في الممارساتِ لدى الإنسانِ. فكلَّما كان المعتقدُ فارغًا من القيمِ الخُلُقيَّةِ والروحانيَّاتِ، كان السلوكُ مماثلًا له. كان الفلاسِفةُ واللاهوتيُّون على وعيٍ بأنَّ الفشلَ في تحقيقِ هذا التَّوفيقِ يكرِّس الاتجاهَ نحو الإلحادِ واللا دينيَّةِ، وكلِّ ما ينتجُ من تداعياتٍ في الواقعِ، أمَّا الوصولُ إلى صيغٍ منطقيَّةٍ لحلِّ مشكلةِ الشَّرِّ في العالمِ فيكرِّسُ الإيمانَ ويكشفُ قدرةَ الإنسانِ، إذا حقَّقَ ذلك، على مواجهةِ الأسئلةِ الحارَّةِ، وإيقافِ الممارساتِ الخاطئة.
المعالجة التي اعتمدتها هذه الورقة تستند من جانب على بعض آيات كتاب الله تعالى، وعلى الأسلوب الذي اتبعته الحكمة المتعالية في التحقيق عن طبيعة الشَّر وصلته بالفعل الإلهي. وانتهت الورقة إلى إثبات كون الشَّر لون من الوجود المتصف بالخير، لهذا تعلقت به مشيئته -تعالى- ووجد لنفسه موطئ قدم في القضاء الإلهي، وسعت إلى تقديم توضيح بأن تصوير الفلاسفة للشّر بصفته "عدما" لا يعارض ما انتهت إليه من نتيجة.
وتبدو هذه القضيّة أكثر عيانًا حين يوصف الله -عز وجلّ- بصفات من قبيل العدل والإحسان واللطف أو يُقال إنّ الخلق قد جرى على أسٍّ من علم الحق وعنايته. يسعى هذا المقال الذي بين أيدينا من خلال دراسة مؤلفات (ابن سينا) إلى أن يُعيد النظر في منهجيّة رؤية هذا الفيلسوف الكبير لقضيّة الشرّ وأيضًا الإجابات والحلول التي قدّمها وعرضها في هذا المجال.
برأي (ابن سينا) من لوازم مراتب الوجود، وجود أنواع طبيعيّة وبشريّة من الشرّ، كما أنّ تنحية بعضها يؤدّي إلى تغيّر في ذات الأشياء وانقلابها أو حذف أجزاء كثيرة من العالم، ويُعدّ هذان الأمران الآنفان شرّ بحد ذاتهما ونوعان من الشر والنقص في عالم الخلقة، شرّ هو أسوأ بكثير من الشر الذي يجري الحديث عنه. وبناًء عليه ليس ثمّة تغاير بين وجود الشرّ والحكمة والعلم الإلهي وعنايته بتاتًا.
حيث انطلق الكاتب من إشكالية فريدة مفادها الربط بين وجود الشرور في العالم، وبين إنكار وجود الله تعالى، فوجود الشرور أمر حتمي، والإقرار بذلك يلزم منه عدم إمكان التسليم بوجود الله، وقد حاول في مختلف فصول الكتاب أن يدفع هذه الإشكالية.
في القسم الثاني من المقالة عمدنا إلى طرح بعض النقاط الإشكالية على معالجة المصنّف، وأهمها حصره للمعالجة بالشرور الأخلاقية وعدم التعرض للشرور الطبيعية، مضافًا إلى أننا لاحظنا أنه على الرغم من أن الكاتب استند إلى وجود بعض المصالح التي جعلت وجود الشرور في العالم أمرًا لازمًا لا مناص منه، ولكنه في الواقع أهمل عرض هذه المصالح بوضوح.
يبرز البحث خصوصية الإسلام في تحقيق التوازن بين الجسد والروح، مقارنةً بالانحرافات التي طرأت على بعض الأديان السماوية وما صاحبها من انقطاع عن الفطرة الإنسانية. كما يعرض القواسم المشتركة في الشعائر بين الأديان السماوية الثلاثة، مع إبراز ما تميزت به الشريعة الإسلامية من وضوح واستقرار بفضل مرجعيتها القرآنية الخالية من التحريف.
ويؤكد البحث أن العبادات في الإسلام هي قوة فاعلة في بناء الفرد والمجتمع، ومصدر استنهاض للأمة إذا أُدِّيت على وجهها الصحيح. فالصلاة تذكير دائم بالعبودية لله، والصوم مدرسة للتقوى والصبر، والحج محطة جماعية توحد المسلمين في مواجهة الطواغيت. وبذلك تشكّل العبادة في الإسلام رؤية شاملة تحفظ التوازن وتبني إنسانًا رساليًا.
وقد لا نبالغُ إن قلنا؛ إنَّ مشكلةَ الشَّرِّ مثَّلتِ المدخلَ الرئيسَ للتمرُّد الغربيِّ الحديثِ على الميتافيزيقا، وأسهمتْ في إثارةِ الشُّبهاتِ عن التَّصوُّراتِ التَّقليديَّةِ عن العدالةِ الإلهيةِ، بل في ولادةِ تيَّاراتِ العدمِ والعبثِ وفلسفاتِ اللا معنى.
وتتبدَّى المفارقةُ أكثر في أنَّ معظم ما كُتبَ عن الشَّرِّ انطلقَ من إطارٍ لاهوتيٍّ غربيٍّ، يقومُ على تصوُّرٍ معيَّنٍ للإلهِ، ومفهومٍ ساكنٍ للعدالةِ، ومركزيَّةٍ للعقلِ المجرَّدِ المفصولِ عن غائيَّةِ الخلقِ. ورغم انشغالِ الفلسفةِ الإسلاميَّةِ بهذه المسألةِ، فإنَّ حضورَها ظلَّ خافتًا في السِّجالِ العالميِّ، مع كلِّ ما تنطوي عليه من مقارباتٍ عميقةٍ، لا سيَّما في امتدادِها الصدرائيِّ الذي جمع بين الفلسفةِ المِشائيَّةِ والإشراقيَّةِ والعرفانِ، وقدَّمَ تصوُّرًا مغايرًا في الجوهرِ والأساسِ.
أوَّلًا: سياقُ المشكلةِ في الفلسفةِ الغربيَّةِ
منذ أنْ تشكَّلتِ الفلسفةُ بوصفِها تأمُّلًا عقليًّا في مسائلِ الوجودِ والخلودِ، ظهرتْ مسألةُ الشَّرِّ باعتبارِها واحدةً من أعقدِ الإشكاليَّاتِ؛ وذلك لأنَّها تُقحِمُ العقلَ في مفارقةٍ تبدو – للوهلةِ الأولى – مستعصيةً على الحلِّ: كيف يمكنُ التَّوفيقُ بين وجودِ الشَّرِّ في العالمِ، والإيمانِ بإلهٍ كلِّيِّ القدرةِ، وكلِّيِّ العلمِ، وكلِّيِّ الرَّحمةِ؟ لقد صيغَتْ هذه الإشكاليَّةُ في الفكرِ الغربيِّ المسيحيِّ ضمنَ معادلةٍ كلاسيكيَّةٍ مشهورةٍ؛ تقولُ:
إذا كان اللهُ قادرًا على إزالةِ الشَّرِّ ولا يفعلُ، فهو ليس رحيمًا، وإنْ كان يريدُ ولا يستطيعُ، فهو ليس قادرًا، وإذا كان لا يريدُ ولا يستطيعُ، فلا معنى للحديثِ عنه أصلًا.
التعليقات