إنَّها الهِدايةُ التي لا يُعكِّرُها الشَّكُّ، ولا تُخالطُها الأوهام، ولا يتسرَّبُ إلى محتواها شيءٌ من الخطأ، وذلك يَعود لأمرينِ: أوَّلُهما أنَّها من الله تعالى، والثّاني أنَّ اللُّطفَ الإلهيَّ يَقتضي تزويدَ الإنسانِ بمعرفةٍ ثابتةٍ يَركنُ إليها، ويطمئِنُّ إلى صدقيّتِها، ويتلقّاها عقلُه ووجدانُه بالاقتناعِ والرِّضا.
إنَّها الهِدايةُ التي بها عرفَ الإنسانُ ربَّهُ، وعنها صدرَ في مَعاشِه وعِبادتِه، وإليها توجَّهَ في فِكرِهِ واجتهادِهِ، ولها أخلصَ في نيّتِهِ وأعمالِه. إنَّها الهِدايةُ التي لا يَعلوها هُدًى، والنُّورُ الذي ما بعدَهُ نورٌ، والحِكمةُ التي لا يُخمِدُ جِدَّتَها تَطاوُلُ الزَّمانِ وتَعاقُبُ الأيّامِ.
باقيةٌ مُزهرةٌ في رياضِ العقولِ والنُّفوسِ، ثابتةٌ شامخةٌ في قِمَم الأدلّةِ والبَراهين، تتجاذَبُ سِحرَها الكواكبُ والنُّجوم، وتتلطَّفُ لمُبتغيها لتكونَ كالثَّمرةِ في الغصنِ القريب، وكالوردةِ التي تدعو بنضارتها وعِطرِها أصحابَ الذَّوقِ الرَّفيع، وأربابَ القلوب الصافية، التي تَعالَت على الجَدَلِ والشَّحناءِ، وتوجَّهَت بآياتِ الكونِ الفَسيح إلى الخالق العظيم، دون التفاتٍ إلى ما سواه.
إنَّها الهِدايةُ الجامعةُ للخير والفَضائلِ، المصبوغةُ بالصِّدقِ والكمال، التي لو تسرَّبَ إليها احتمالُ الخطأ لاحتاجَ الإنسانُ إلى معرفةٍ أعلى منها، وهيهات أن يتسرَّب إليها الخَطأ، ومصدرُها هو الله تعالى، وحاملُها روحُ القُدس، ومُتلقِّيها النبيُّ المَعصوم، الصّادقُ الأمين.
وهي لأجل ذلك تناولَت دلالاتِ الوحيِ في اللُّغة والدِّين والفلسفة، وموقف المُنكِرين للنُّبوّة منه، وتصدِّي بعض الفلاسفة لمقاربة هذا المفهوم من أجل عقلنتِه، والانتقادات التي وُجِّهت لتلك المقاربات. ولم تُهمِلِ الطَّريقةَ التي قدَّمَ بها الوحيُ نفسَه، وتصويرَه لكيفيّة التَّواصل بين الله والنبيِّ.
كما أحدث هؤلاء -ومن خلال التشكيك في مصدر الوحي- اختلافاً كبيراً بين وجهات نظر القدماء والمتأخرين من العلماء. ومع ظهور هذا التيار، واجهت آراء (سروش) حول الوحي انتقادات مهمة من علماء الحوزة والجامعات، إلا أنّ الأُسُس التي قام عليها لم تحظَ بالكثير من المناقشة. نسعى في هذا المقال إلى استخراج أُسُس ومباني آراء (سروش) حول الوحي ونقدها، وهي إجمالًا ترجع إلى المباني التالية: المعرفة الدينية، ونظرية المعرفة، والهرمنوطيقا، وعلم اللغة. وقد تبيّن أن آراء (سروش) يشوبها إشكالات جوهرية تتمثّل في: غموض وتعميم النظريات، وضعف المنهجية، والخلط بين المواضيع المختلفة، والمقارنة غير الدقيقة بين الإسلام وغيره من الأديان والمذاهب، وإدعاءاته الخالية من الدليل، والنسبية في المعرفة لديه.
وأيُّ تشويهٍ أو مساسٍ بها يُؤدِّي إلى تقويض هذه الرُّؤية، وتَشويه صورة النبيِّ الأعظم (ص)، الذي تَعُدُّه المصادرُ الإسلامية أفضلَ الأنبياء وأشرفَ البشر.
لذا، تتطلَّب هذه القضيّةُ دراسةً دقيقة لمواجهة الشُّبهات والافتراءات التي تستند إلى الرِّوايات المَوضوعة والإسرائيليّات. ويَتناول البحثُ هنا قضايا أساسيّة، منها: مفهوم الشَّيطان في اللُّغة والقرآن، وعلاقته بالنَّفس الإنسانيّة والنَّبوية، ودعاوى "إلقاء الشَّيطان" في الوَحي المُحمَّديِّ، مثل خرافة الغَرانيق.
ثم تعرَّضْنا لمفهوم الوحي من منظارٍ فلسفيِّ، والشُّبهاتِ التي أُثيرَت حول وحي النُّبوة بطريقةٍ سانحةٍ للتَّشكيك في ربّانيتِه وتَشويهِ سيرةِ وتراثِ النبيِّ، كما تعرَّضْنا للوحي من منظورٍ كلاميٍّ، وبيَّنّا حقيقةَ فكرة "الكلام الإلهي" عند مختلفِ الفِرَق، ونظريّةَ المُتكلِّمينَ الجُدد، وبَيَّنّا أنَّ طبيعة الارتباط الوحيانيِّ بين الله والنبيِّ موهبةٌ إلهيّةٌ غيرُ قابلة للاكتساب، وتعرَّضْنا للفُروقات بين الوحي وبقية منابع المعرفة (الحسِّ، والعقل، والكشف والإلهام)، وتعرَّضْنا لأدلة الوحي العقلية والنَّقليّةِ والشَّواهد التاريخيّة التي تُثبِتُ أنَّ الوحيَ ليس نتاجَ الحِسّ أو العقل، وأنَّ النَّفسَ إنْ أعرضَتْ عن دواعي الطَّبيعة اتَّصلَت بالسَّعادة، وانعكسَ عليها القدسُ الإلهيُّ، ورأتْ آياتِ الله الكُبرى، فالوَحيُ النّازلُ تتلقّاهُ الرُّوحُ من غير مشاركة الحواسِّ الظَّاهرة ، ومن ثَمَّ خاتمة وبعض النَّتائج والتَّوصيات.
شبهة الوحي النَّفسي
تدَّعي هذه الشُّبهة أنَّ الوحيَ مُجرَّدُ حالةٍ نفسيّة، وأنَّ النبيَّ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) اعتمدَ على عبقريّتِه وأفكارِه، مُستفيدًا من الدّيانات السّابقة كاليهودية والنَّصرانية.
شُبهة التَّجربة الدِّينية
تَفترض هذه الشُّبهةُ أنَّ الوحيَ تجربةٌ شعوريّةٌ أو إدراكٌ حسيٌّ مُشابِهٌ للكَشف العرفانيِّ، لكنَّها تَفتقر إلى الدَّليل على هذه المُسانخة المَزعومة بين الوَحي والكشفِ العرفانيّ.
شُبهة التَّناصِّ (الاقتباس من المصادر السابقة)
تدَّعي هذه الشُّبهةُ أنَّ للقرآن مصادرَ أصليةً مُتعدِّدةً، تَشملُ الشِّعرَ الجاهليَّ والأديانَ السّابقة، مُستنِدةً إلى تشابُهٍ مَزعومٍ بين آياتٍ قرآنية وأبياتٍ من الشِّعر لـ (امرئ القيس) و(أميَّة بن أبي الصَّلْت).
ومن ثَمَّ، تُناقش المقالةُ دِقّةَ وصَوابيّةَ هذه الشُّبهات، وتصلُ في خاتمة البحث إلى نتيجة مفادُها أنَّ النصَّ القرآنيَّ فريدٌ وأصيل.
الكلمات المفتاحيّة: الظَّاهرة القرآنيّة، الوَحي، المستشرقون، الحداثيُّون، الوحي النَّفسيّ، التَّجربة الدِّينيّة، التَّناصّ.
والإدراكُ المتحصِّلُ بالوَحي إدراكٌ خاصٌّ يَختلف عن سائر الإدراكات البشريّة المُشتركة بين أفراد البشر كافّةً، يُوجِده اللهُ -تعالى- في أنبيائِه (ع) إيجادًا لا يَعتريه معه لَبْسٌ أو خطأ، ولا يَحتاجون فيه إلى إعمال نظر، أو توسُّل دليل، أو إقامة برهان.
وتتناول هذه المقالةُ موضوعَ الوَحي ومباحثَه التي طرحَها (السيِّدُ محمد باقر الحكيم) (قده)، في كتابه "علوم القرآن"، وتُبيِّنُ مقاربتَه التأصيليّة لهذا الموضوع المُهمِّ والحَسّاس، ونقدَه لشُبهة "الوَحي النَّفسي" التي تبنّاها المستشرقون، من خلال أبعاد ثلاثة، هي:
أنَّ الدَّلائل التأريخية القطعيّة، وطبيعةَ الظُّروف التي مرَّ بها النبيُّ (ص)، تأبى التَّصديقَ بهذه النَّظرية وقَبولها.
أنَّ المُحتوى الدَّاخلي للقرآن الكريم، بما يضمُّ من تَشريع وأخلاق وعقائد وتأريخ، لا يتَّفقُ معَ هذه النَّظرية في تفسير الوَحي القُرآني.
أنَّ مَوقفَ النبيِّ (ص) من الظَّاهرة القُرآنيّة يَشهد بوضوحٍ على رفض تَفسير الظَّاهرة القرآنيّة بنظريّةِ الوَحي النَّفسي.
تُظهِرُ دراسةُ الأهداف العامّةِ والمَسارِ الكلِّيِّ لهذَينِ الفيلسوفَينِ، وكذلك الميِّزاتُ الخاصّةُ بتجربة الحياة، نوعًا من التَّقارُب والتَّوافُق في هذه القضيّةِ، التي يُمكِنُ المُقارَنةُ من خلالها بينَ رُؤى هذَينِ المُفكِّرينَ. وسيَتطرَّقُ هذا المقالُ إلى أمورٍ، كتاريخ الإحساس بالتَّجربة، والسِّجلِّ الزَّمنيِّ لها، وكيفيّةِ إدراكِها. كما يُعدُّ سريانُ الحياةِ والإدراكُ الفَعّالُ والمُشترك والمُباشر للحياة من النِّقاط المُتماهيةِ الأهمِّ بين الفيلسوفَينِ، أي تَترافَقُ النَّفسُ خلال حركتِها وسريانِها في الحياة بِنَضْحٍ للقِيَمِ، فتَقوم لاستكمال نفسِها بالعملِ الإراديِّ المُنبثِقِ عنها، وتُحدِّد (تُعيِّن) بدنَها المثاليَّ الخاصَّ بها إثرَ ذلك.
من هنا، جاءُ الأنبياءُ والرّسل برسالات السّماء لهداية الإنسان. والأنبياء لم يأتوا بالرسالات السماوية من عندياتهم، بل جاءت إليهم عن طريق الوحي.
يضيء هذا الكتاب –الذي نراجعه في مقالتنا هذه- على مسألة الوحي كقيمة جوهرية في منظومة العقائد الدينية وبالأخص منه عقيدتنا الإسلامية.
ويشرح لنا مؤلف الكتاب معنى الوحي، ويتوسع في تفكيك هذا المفهوم، مبيناً الفرق بينه وبين مفاهيم دينية أخرى؛ كمفهوم التجربة النبوية، ومفهوم الإلهام، ومفهوم العرفان، وغيرها.. ويؤكدُ الكتاب على أن ظاهرة الوحي قُدسية بعيدة عن الحس والتجربة والعقل والظن والتخمين وهوى النفس ومزاج النبي وإلهامه، بل هي حالة خاصة، وسبيل خاص، وارتباط وتواصل خفي يحصل عليه بعض عباد الله المخلصين؛ لكي يتلقوا حقائق الوجود التكوينية ورسائل الكمال الإنساني، ويوصلوها للناس على طريق هدايتهم لطريق الخلاص والتكامل، وبناء الحياة على أسس العدالة والقيم الإلهية.
اضافةتعليق