أمَّا الله فهو الإلهُ الفاعل للخلق والمُدبِّر له، وأما الإنسان فهو المَخلوق الأرقى في الوجود، الذي جعله الخالقُ خليفةً له في الأرض، لعمارتها وتحقيق الغاية والحكمة من الخَلْقِ، وأما العالم فهو "مسرح الأحداث"، ومَجال التأمُّل، وموضوع العلم، والدليلُ على عظمةِ الخالق، وموطِنُ وجود الإنسان وتَشريفِه من قبل خالقه.
ومنذ أن قال الله "كُنْ" الأمرية، ونفخ في الإنسان من روحه، ثم أهبَطَه إلى الأرض، والإنسان يَسعى في طلب المَعرفة: معرفة الله، ومعرفة العالَمِ، ومعرفة نفسِه؛ والمعرفةُ تبدأ بالسُّؤال، والسُّؤالُ هو دأبُ الإنسان منذ ولادته، والفلسفةُ هي فنُّ السُّؤال والتُّساؤُل، وما التَّفلسفُ إلّا مُحاولةُ السَّعي للوصول الى إجابات. لذا كانَت الفلسفةُ والتفلسُف مذ كان الإنسان، ولم تُفارِقْهُ لحظةً واحدة، وإنِ اختلفَ السُّؤال والإجابة من حيثُ العمق تَبعًا لمراحل تطوُّر الإنسان.
فقد أنتج العقلُ البشريُّ كثيرًا من التساؤلات والأفكار والنظريات التي حاولت أن تشرح معنى هذا المصطلح، وتُقدِّمَ الإجاباتِ الشّافية لأسئلة الإنسان المُلِحّة بهذا الخصوص؛ فربَّما وجدنا الكثيرَ من الأفكار التي تُصوِّر الإلهَ بتصوير إنسانيٍّ، بمعنى أن الإنسان قد تصوَّرَ إلهَه بمعايير السَّواء والكمال نفسِها التي وَجد عليها الكونَ والطبيعة والمجتمع: فإلهُ الزنوج زنجيٌّ، وإلهُ البيض أبيضُ، ... حتى قيل إنه لو تسنَّى للحيوانات أن تُصوِّر الإلهَ لَصوَّرته على هيئتها نفسِها، وتطوَّر هذا المفهومُ لِتنسحبَ صفاتُ الإله وأعمالُه على الإنسان نفسه، كما أُضيفت صفاتُ الألوهية على بشرٍ مُعيَّنين كما حصل مثلًا في الحضارات القديمة، مثل تأليه الفِرعون في الحضارة المصرية القديمة، وغير ذلك من الأمثلة ...
أمَّا في الديانات السماوية فقد تمَّت مقاربةُ الموضوع من أبعاد أخرى، وتراوحَت الأفكارُ حوله بين التَّنزيه والتَّشبيه والحُلول و... غيرها. وعلى الرغم من ذلك، فلا بدَّ لنا من الإقرار بأن مفهوم التَّنزيه هو الأساس الذي قامت عليه الأديانُ السَّماوية بوصفها أديانًا توحيدية، تنظر إلى الإله بصورةِ المُفارِقِ، الذي لا نظيرَ له ولا شبيهَ، وليس كمثله شيءٌ، وفي هذا البحث سنحاول أن نُلقي الضَّوء على الظروف والأحوال والأفكار التي لَوِّثَت مفاهيمَ التَّوحيد والتَّنزيه وأخرجته عن إطاره الفطريِّ الصَّحيح.
وهذا يَدعونا لِحَسِّ الخُطا في هذا الموضوع الهامِّ، الذي يضرب بجذوره في تاريخ الاعتقاد البشري، البعيد عن المنهج السَّماويِّ، الذي جاءَت به الرُّسلُ من الله -تبارك وتعالى- إلى البشرية؛ لِتَصل به إلى طريق الحقِّ والهداية. ولكننا نجد بعضَ الطَّوائف البشرية تتنكَّب لهذا الطَّريق السَّويِّ، وتَختار المسيرَ في طريق الضَّلال، فتتَّخذ من بعض المخلوقات آلهة يَدينون لها بالولاء والتقديس، نتيجة الخوف منها، أو اللُّجوء إليها والاستنجادِ بها من أحداث ووقائع غيبية لا تُعرف أسبابُها.
وقد انتشر هذا الاعتقادُ في معظم الطَّوائف البَشرية، وخاصة عند أجيالِ الأمم التي تباعَدَ زَمنُها عن زَمانِ أنبيائها وحُكمائها، وهذا ظاهر خاصّةً في الديانات الأكَّدية والزرادشتية (المجوسية) والطوطمية .. وغيرها من الديانات الوضعية.
وقد حاول البحثُ إلقاءَ الضَّوء على بعض هذه الديانات الوضعية وخصائصها؛ لأن الموضوع أكبر من أن يُحاط به في مقالة أو بحث، وهذه دعوة للاستمرار في البحث العلمي عن نشأة الأديان الوضعية؛ للوصول إلى الأسباب التي أدَّت بطوائف من البشر للانحراف في الاعتقاد، والسَّيْرِ على طريقٍ غيرِ طريق الأنبياءِ.
وقد أشرنا متابعة للبحث وتوضيحاً لتاريخ الإنسانوية الحديثة إلى ثلاث مراحل: الإنسانويّة في عصر النهضة، الإنسانوية في عصر التنوير، والإنسانوية الحديثة، ثم عرضنا لميِّزات كلٍّ منها، وثم فصَّلنا بين أنواع الإنسانوية وهي: الإنسانوية الدينية، والإنسانوية العلمانية، ثم شرحنا مبادئ الإنسانوية كالنَّزعة الطبيعية ومصدر قيميّة البشر، وحرية الإنسان والنزعة العقلانية، وأخيراً عرضنا بعضَ الانتقادات الموجَّهة للإنسانوية.
بمعنى أنَّه يُمكن للفرد والمجتمع التحلِّي بالأخلاق الفاضلة من غير الرجوع إلى الدِّين، بل قد يكون الدِّين عائقًا أمام مسيرة التَّطوُّر الأخلاقي للإنسان، وفي الوقت نفسه تؤكِّد الحركة على حيادها في الموقف الميتافيزيقي الدِّيني، وتقبُّلها للأديان والأفكار المختلفة.
إلا أنَّ المباني الفكرية التي تقوم عليها هذه الحركة لا تستقيم بعد المناقشة والنقد؛ إذ لا يُمكِن القَبولُ بتعدُّدية الأديان والعقائد وقبولها معًا، على ما بينها من الاختلاف أو التنافي، كما لا يصحُّ معرفيًّا القولُ بعدم إمكان إثبات المسائل الميتافيزيقية باعتبار تعدُّد طرق المعرفة الإنسانية، بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ العلاقة بين الدِّين والأخلاق هي علاقة تكامليّة انسجاميّة، بحيث لا يستغني البحثُ في الأخلاق عن الدِّين نظريًّا وعمليًّا.
لِتقنِعَ بقوانين المادة لتفسير الكون، ولسان حالهم يقول: نشكرُكَ اللَّهمَّ على نِعمتِكَ، ولكنَنّا غيرُ مُحتاجينَ إليها. فالإنسانُ يُمكِنه بالعلم التجريبيِّ أن يَستغني عن الدِّين في فهم الكون، وفي تنظيم حياته بما يُؤمِّن له أسبابَ السَّعادة. وباختصار تقوم هذه الرؤية على التَّناقض بين الله (الدِّين)/ والإنسان، لأنَّ الرُّؤية الدِّينية -وفق تصوُّراتهم- تُؤسِّس لعقيدة تحقير الإنسان وامتهانِ قيمتِه.
وفي نقض هذه الرؤية تُثبت البراهينُ العقلية أنَّ الإنسان في خطِّ علاقته مع الله تعالى هو عَينُ الفَقر، ولا شَيئِيّةَ له بلحاظ ذاته، وإنَّما يكتسب شَيئِيَّتَه بالفَيض الإلهي المُستمرِّ، فلا يُمكِنُ للـ"أنا" الإنسانيّة أن تنفكَّ عن "أنت" الإلهّية، بتعبير آخر لا تُلغي مُحوريّةُ الله تعالى محوريّةَ الإنسان الظِّلِّيّة، المكتسبة من محورية الله تعالى، الذي جعلَ الإنسانَ خليفةً، حاملًا للأمانة، وكرَّمَه وفضَّلَه، وخَلَقَه في أحسنِ تَقويم، ومكَّنَ له في الأرض، وسخَّر له عالَمَ الطبيعة!
الكلمات المفتاحية: نزعة الأنسنة، محورية الله، الدين، العلم التجريبي، الفلسفات المادية، الخلافة الإلهية، الكرامة الإنسانية، العقلانية، الأمان النفسي، الضوابط الاخلاقية.
وتتحدَّد مشكلة البحث في الإجابة عن تساؤل رئيسيٍّ عن أهمِّ تيارات الإنسانوية، وأهمِّ النُّقود لها، مع التركيز على الفلسفة الوضعية لـ(أوغست كونت - Auguste Comte).
وبالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي يُعالجه البحثُ، فقد اعتُمد منهجٌ مركَّبٌ يُزاوج بين بحث التاريخ والوصف والتحليل والنقد، حيث اعتُمد المنهج الوصفي في التعريف بالتيار الإنساني، وبيان أهمِّ فروعِه التاريخية وأنواعه، ثم استُخدم المنهج التاريخي لتتبُّع جذور النَّزعة الإنسانية، ثم المنهج التَّحليليُّ النَّقديُّ لمُعالَجة التباسات هذا المفهوم وإشكالاته في الفلسفة الغربية، وموقف الدين الإسلامي منه. وقد تمَّ التوصُّل إلى أن مفهوم الإنسانوية مفهومٌ متعدِّدُ المعاني، ويكتنفه غموض يجعله مفهومًا ملتبسًا قابلًا لشمول تصوُّرات مختلفة، بحسب المَرجعِيَّات والسِّياقات المعرفية، وأهم النُّقود له هو فقدانه لمعرفة حقيقة الإنسان وأبعاده الوجودية، وصولًا إلى محاولة تحليل أسباب انقلاب نزعة الإنسانوية من نزعة تهدف إلى الإعلاء من شأن الإنسان إلى نزعة ساهمت في انحطاط الإنسان، نتيجة اختزالها حقيقته في البُعد المادي، وإغفالها الأبعاد الأخرى الروحية والأخلاقية، واقتصارها على المنهج الوضعي والأدوات التجريبية كأدوات معرفية وحيدة، ورفض جميع الأدوات المعرفية الأخرى كالعقل البُرهاني والشُّهود.
حيث يقارب الآيات المتعلقة بصلب المسيح (عليه السلام) عبر ربطها بآيات أخرى واستخراج نتائج من هذا الربط من قبيل أنّ القرآن إنّما قال أنّ المسيح (عليه السلام) لم يمت لأنّه حيّ عند الله كما هو حال الشهداء الذين لا يصح أن يُقال عنهم إنّهم أموات رغم أنهم قُتلوا. كما وأنّه يعبتر في "شُبّه لهم" معنى غير السائد، مستنكراً على من قال بإلقاء شبه المسيح على شخص ما. وفي نهاية المطاف يُبرز نتيجة بحثه معتبراً أنّ المسيح (عليه السلام) صُلب ومات على الصليب، ولكنّه حيّ عند الله. في مقام نقد أطروحة (مراد) سنحاول تبيين الصورة الأشمل من خلال توضيح السقطات اللغوية والمنهجية للكاتب، وكذلك تجاوز الكاتب للكثير من الآيات الكريمة التي تبطل ما ادّعاه من أفكار، لنخلص بنتيجة أنّ القرآن يقول صريحاً بأنّ المسيح (عليه السلام) لم يُصلب ولم يُقتل، وأنّ إلقاء الشبه على غيره أمر ممكن بل راجح؛ لأن ثمّة حكمة فيه وحجة على من اتّخذ عيسى (عليه السلام) إلهاً.
ولا علاقة ذاتية وموضوعية له بمبادئ حقوقِ الإنسان التي ظهرتْ في الغربِ الحديث الذي كانَ لهُ –كما يدّعون دونَ وجه حق- قصبُ السّبق فيها..!!.
قدّمَ هذا الكتابُ الذي بينَ أيدينا هنا، رؤيةً فكريةً ومعرفية تاريخية وحداثية راهنة مهمة حولَ مرحلةٍ زمنية من تاريخنا الإسلامي، كانَ المبدأ الإنساني الحقوقي أبرز تجلياتها العملية في سياق التعاملات والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والسياسية. وهي مرحلة حُكم الإمام علي(ع) لزمامِ الدولة الإسلامية، والتي أعطى في قيادته وممارساته السياسية وغير السياسية لها، أنموذجاً حياً وفذّاً لمعنى القيم الإنسانية قبل أن تظهر في الغرب بعدة قرون.
وقد لاحظنا أنّ الكاتبَ نجحَ في استعراضِ هذه الممارسات القيمية الإنسانية والحقوقية لقائد الدولة ورجالاته ومؤسساته، محاولاً تقديم رؤية متطورة ومعاصرة لفكر الإمام علي(ع) الحقوقي والإنساني، بما يستدعي لاحقاً من باحثينا إعادةَ تطويرِ هذه الرؤية وتحليل معانيها الواقعية المعاصرة ومقارباتها التاريخية الراهنة.
اضافةتعليق