لماذا نموت؟ هل الموت نهاية أم عبور؟ هل هناك ما وراء هذا العدم الذي لا يبوح بأسراره؟
على مرّ العصور، لم يكن الموتُ مجرّدَ تجربة فرديّة، بل كان حجر الأساس في تشكيل الحضارات والأديان والفلسفات. من أهرامات الفراعنة إلى طقوس الشعوب البدائيّة، ومن تأمّلات الفلاسفة إلى نصوص الكُتب المقدّسة، ظلّ الإنسان يُحاول التفاوض مع الفناء، ويضع له تأويلًا، أو يمنحه معنى، أو يحاول، على الأقلّ، تأجيل لحظة المواجهة. لكن السؤال بقي معلّقًا، يراوغ العقل، يفتح أبواب الخوف، ويُعيد تشكيل فهم الإنسان لحياته ذاتِها.
لم يعد الموتُ في الفكر الغربيّ الحديث، مجرّد لغز ينتظر تفسيرًا، بل أصبح معضلةً وجوديّةً قائمةً بذاتها. ومع انحسار الإيمان الدينيّ في الفلسفات الحديثة، وغياب التصوّرات التقليديّة للحياة الأُخرى، صار الموتُ أشدَّ وطأة، وأكثر حضورًا في وعي الإنسان المعاصر. أصبح الموت في الفلسفة الغربية الحديثة نقطة نهاية؛ حيث ينتهي كلُّ شيء بلا رجعة. لم يحرّر هذا التحوّلُ الإنسانَ من الخوف، بل زاد من قَلَقِه. فإذا كانت الحياةُ بلا امتداد، وإذا كان الموتُ هو المحطّة الأخيرة، فماذا يبقى من المعنى؟ هل يستحقُّ أيُّ شيء أن يُعاش إذا كان الموت يبتلعه في النهاية؟
فانطلقوا في تناولهم للموت من موقفهم الرافض لـ"ثُنائيَّة الوجود"، مع الإصرار على الانطلاق من مفهوم "الواحديَّة الماديَّة" فكان طبيعيًّا أن يَضيعوا في تِيه الماديَّة، وهذه نتيجةٌ طبيعيَّةٌ لمحاولة تفسير ظاهرة ميتافيزيقيَّة بحتة كالموت من خلال آلياتٍ ماديَّةٍ صِرفة؛ إذ انتهوا من بحثهم هذا إلى قفزات متسارعة، رأوا فيها الموت نهايةً للوعي، وقذفًا بالإنسان إلى العدم والفَناء، مع إنكارٍ تامّ للخُلود في حياة أُخرويَّة، اللَّهم إلا خلود الذكر-عند بعضهم- للعباقرة والأفذاذ من بني الإنسانيَّة، متمسّكين في كل ذلك بالعلم الذي أثبت في النّهاية تهافت تصوُّراتهم وسقوط مزاعمهم.
ومن بين أبرز هذه التحديات تلك التي يطرحها مذهب ما بعد الإنسانيَّة، الذي يسعى أنصاره إلى تصوّر إنسانٍ جديدٍ أكثر تقدُّمًا من خلال رفع قدراته الروحيَّة والنَّفسيَّة والعقليَّة والجسديَّة، وصولًا إلى تحقيق الخلود البيوتكنولوجي. يهدف هذا البحثُ إلى تحليل هذه الظواهر وتقديم رؤية مقارنة وشاملة. وقد تمَّ في هذا البحث تحليل التَّصوُّرات المختلفة حول مفاهيم مثل: الإنسانيَّة المتحوّلة، وما بعد الإنسانيَّة، والبيوتكنولوجيا وآثارها. كما تمّ الكشف عن نقاط التَّقارُب والاختلاف بين رؤية مذهب ما بعد الإنسانية للإنسان والرُّؤية الدينيَّة لهذه المبادئ ،ممَّا يُسهم في تكوين فَهمٍ أعمق لهذا الجدل الفِكري والوُجودي.
باعتبار أنَّ هذا المفهوم يُعدُّ من جوهر عمل السَّالك في طريق الوصول إلى الله -سبحانه وتعالى-، كما ستُبيّن هذه المقالة علاقة الموت الاختياريّ بالموت المعنويّ، وما هي مراتب الموت الاختياريّ وأنواعه، وكيف استعان علماء الأخلاق بالموت الأصغر لشرح مفاهيم الموت الأكبر، وما هي أهم الفروقات في طرح مسائل الموت المعنويّ بين علماء الأخلاق والحكمة المُتعالية، وتختتم المقالة بعرض أهميَّة علاج الخوف من الموت خلال معرفة مَناشِئه وأسبابه، ومعرفة كيفيَّة العلاج من خلال ما قدَّمه عُلماء الأخلاق في سياق شرحهم للموت والنَّفس والخوف.
وحاولنا في هذه الورقة البحثيَّة بيان أنَّ الانتحار بوصفه فعلًا اختياريًّا، فاقدٌ لمبادئ الفِعل الاختياريّ الإنسانيّ، وأنَّ الإقدامَ عليه يقع على نقيض الأفعال الاختياريَّة، التي يقوم بها الإنسان بحثًا عن كمالٍ يُحصّله أو نقص يدفعه. وذلك بالرجوع التَّحليلي إلى مسألة الفِعل الاختياريّ ومبادئه القريبة والبعيدة، والتي على أساسها تمَّ اختبار مدى تطابُق فعل الانتحار مع هذه المبادئ التي تُراعي إنسانيَّة الإنسان.
يهدفُ المقالُ الَّذي بين أيدينا لتبيّين نظريَّة (السَّهروردي) حول عالم المثال، والقول إنَّ هذه النظريَّة تُقدِّم تفسيرًا أكثر عقلانيَّة لهذه التجارب؛ حيثُ يُصوَّر في نظريَّة عالم المثال عالمٌ تتطابق فيه خصائصه كثيرًا مع الخصائص النَّاظرة إلى تجارب القُرب من الموت. لذلك يمكن استنادًا إلى هذه النظريَّة أحيانًا، عرض تجارب القُرب من الموت من خلال مزج بعض النَّظريَّات الأخرى لشيخ الإشراق، كنظريَّة علم الإشراق والأنوار القاهرة والذِّكر.
لقد كان يَرَى هؤلاء الحُكماء بأنَّ البشرَيَّة عليها أن تبدأ مسارها وحركتها من مقام البرزخ النُّزولي، وتَعبُرَ من العالم المادّيّ بكَثرَاته، وتَطوي حياتها التَّكامليَّة وحركتها التَّصاعُديَّة بإرادتها واختيارها نحو عالم العقل ووحدته، لذلك -حسب التعبير القرآني- لقد بدأ آدم(ع) سيرورته الأرضيَّة من الجنَّة البرزخيَّة، وفي تلك الجنَّة تلقَّى التَّعليمات المَبدئيَّة وتعلَّمها، من قبيل الأسماء الإلهيَّة وحقيقة مقام الخلافة الإلهيَّة، وكونه مسجودًا للملائكة، ليستفيد منها في حياته على الأرض، وقد تعرَّف كذلك على الوَساوس الشَّيطانيَّة، وأدرك مدى عداوة إبليس الشَّديدة لمقام الإنسانيَّة، ثمَّ أُهبِطَ محمَّلًا بهذه التَّعاليم والثَّروة إلى الأرض. وبالتَّالي، فإنَّ حُضورَ آدم في الجنَّة كان بناءً على مصلحةٍ عظيمةٍ تسمو به كمالًا، وينبغي له أن يستقر في ملكوت هذا العالَم ليهبط بعد ذلك خارجه.
وقد حملت رسالات الأنبياء جميعًا -في حيّز كبير ومهم منها- الدعوة للإيمان بالآخرة ويوم المَعاد، وأنَّ الموت ليس عدمًا، وليس نهاية للحياة، بل هو نهايةٌ للحياة بمعناها الأرضيّ، وبدايةٌ ومُقدّمةٌ لحياةٍ أوسع وأعظم، هي حياة ما بعد الموت.
يُسلّط هذا الكتاب –الذي نُراجعه في مقالتنا هذه- الضَّوء على ركنٍ أساس من أركان الإيمان بالإسلام، هو المَعاد، وهو يأتي كمسألةٍ جوهريَّة في مَنظومَة العقائدِ الدّينيَّة لكلّ الأديان، وبالأخصّ منه عقيدتنا الإسلاميَّة.
يُضيء المؤلف في كتابه هذا كثيرًا من النّقاط المُتعلّقة بالمَعاد البشريّ، وعالم ما بعد الموت (كفلسفة الخلق، والعدالة الشَّاملة، وأدلَّة المَعاد، وبقاء الرُّوح واستقلالها، وعلامات يوم القِيامة، وغيرها)، نَستخلِص من خِلالها فِكرةً رئيسةً وهي: أنَّ الحياةَ حركةٌ دائمةٌ ومُستمرَّةٌ، والله لم يخلق النَّاس فيها عبثًا، بل لغايةٍ تكامُليَّةٍ كُبرى مَعلُومةٍ. والحياة خالدةٌ بخُلود رُّوح الإنسان، وما يتغيَّر فيها، هو الشَّكلُ والمظهرُ الخارجيُّ؛ حيثُ الانتقال يَكون من عالَمٍ أرضيّ إلى آخر يتميَّز بالعدالة المُطلَقة.
اضافةتعليق